يوم الذكرى في كوريا: تكريم الأبطال وتجديد الوفاء الوطني

 

الممثل (تشوي بوول آم) يلقي قصيدة إهداء في حفل اليوم الوطني للذكرى التاسع والخمسين، 6 يونيو 2014، المقبرة الوطنية في سول. (الصورة من حساب كوريا نت الرسمي على فليكر)

الممثل (تشوي بوول آم) يلقي قصيدة إهداء في حفل اليوم الوطني للذكرى التاسع والخمسين، 6 يونيو 2014، المقبرة الوطنية في سول. (الصورة من حساب كوريا نت الرسمي على فليكر)

 

في السادس من شهر يونيو من كل عام، تتوقف كوريا بأكملها لتُحيي يوم الذكرى الوطني. تصمت الشوارع، وتتحول الدقيقة إلى زمنٍ ثقيل يحمل بين ثوانيه احترامًا عميقًا لمن غابوا ليبقى الوطن، وتكريمًا لأرواح أولئك الذين بذلوا حياتهم فداءً لوطنهم. ليس هذا اليوم مجرّد مناسبة او اجازة رسمية فقط، بل هو لحظة وطنية خالدة، تتجدد فيها مشاعر الامتنان والانتماء، وتُعاد فيها قراءة التاريخ بصوت الذاكرة.


النصب التذكاري للحرب الكورية، 5 يونيو 2025 . (الصورة من حساب كوريا نت الرسمي على فليكر)

النصب التذكاري للحرب الكورية، 5 يونيو 2025 . (الصورة من حساب كوريا نت الرسمي على فليكر)
 

ما هو يوم الذكرى؟

يُعد يوم الذكرى من أبرز الأيام الوطنية في كوريا، حيث يُخصَّص لتكريم أرواح الجنود والمدنيين الذين استشهدوا خلال الحروب التي مرّت بها البلاد، وعلى رأسها الحرب التي اندلعت في منتصف القرن العشرين. في هذا اليوم، تُقام مراسم رسمية في العاصمة، ويحضرها رئيس الدولة وكبار المسؤولين، ويضعون الزهور البيضاء على الأضرحة، ويتلون كلمات العرفان والوفاء.


مقبرة الجندي من الدرجة الاولى (كيم بونغ هاك) الذي قُتل خلال الحرب الكورية، 6 يونيو 2023،  مقبرة سول الوطنية. (الصورة من حساب كوريا نت الرسمي على فليكر) 


المحارب القديم (أوه وان جيو) يؤدي التحية العسكرية عند قبر الجنرال (تشاي ميونغ شين)، 5 يونيو 2015، مقبرة سول الوطنية. (الصورة من حساب كوريا نت الرسمي على فليكر)
المحارب القديم (أوه وان جيو) يؤدي التحية العسكرية عند قبر الجنرال (تشاي ميونغ شين)، 5 يونيو 2015، مقبرة سول الوطنية. (الصورة من حساب كوريا نت الرسمي على فليكر)


ماذا يحدث في هذا اليوم؟

عند الساعة العاشرة صباحًا، تدق صفارات الإنذار، فيقف الجميع دقيقةً كاملة في صمتٍ تام. مشهدٌ مهيب يعكس مدى عمق الانتماء الوطني، ويُجسّد الوحدة بين أفراد الشعب، مهما اختلفت أعمارهم أو أماكن تواجدهم.

في هذا اليوم، تُخفَض الأعلام إلى نصف السارية، وتُقام الزيارات الجماعية إلى المقابر الوطنية، حيث يضع المواطنون الزهور ويتركون رسائل قصيرة لذويهم الذين رحلوا. كما تعرض وسائل الإعلام أفلامًا وثائقية وشهادات حية لأفراد عاشوا تلك اللحظات الصعبة.


من مراسم إحياء يوم الذكرى الوطني، 5 يونيو 2015، مقبرة سول الوطنية. (الصورة من حساب كوريا نت الرسمي على فليكر)

من مراسم إحياء يوم الذكرى الوطني، 5 يونيو 2015، مقبرة سول الوطنية. (الصورة من حساب كوريا نت الرسمي على فليكر)

النصب التذكاري للحرب الكورية، 5 يونيو 2025 . (الصورة من حساب كوريا نت الرسمي على فليكر)

النصب التذكاري للحرب الكورية، 5 يونيو 2025 . (الصورة من حساب كوريا نت الرسمي على فليكر)


وتحرص القنوات الرسمية والإذاعات على بث الأناشيد الوطنية والبرامج التوعوية التي تسلط الضوء على قيمة التضحية من أجل الوطن، فتخلق حالة وجدانية عامة تُعيد للأذهان بطولات الماضي وتُشعل مشاعر الفخر والانتماء. كما تشهد بعض المدن عروضًا رمزية تُجسد مراحل من تاريخ البلاد، ويشارك فيها متطوعون يرتدون الزي العسكري القديم، مما يمنح الجيل الجديد تصورًا بصريًا حيًا لتاريخهم الوطني.


وتلعب المدارس دورًا مهمًا في ترسيخ قيمة هذا اليوم لدى الأجيال الناشئة؛ ففي الأيام التي تسبق يوم الذكرى، تُخصَّص حصص دراسية لتعريف الطلاب بتاريخ هذا اليوم ومعانيه، وتبدأ الأنشطة المدرسية بالوقوف دقيقة صمت جماعي، تعبيرًا عن الاحترام والتقدير. كما تُنظَّم مسابقات فنية وأدبية تُشجّع الأطفال على التعبير عن مشاعرهم، وتُعرض أعمالهم في معارض داخل المدارس. من خلال هذه الممارسات، تُساهم المؤسسات التعليمية في غرس مفاهيم الوفاء والانتماء منذ الطفولة، وتشكيل وعيٍ وطني راسخ، حتى قبل أن يُدرك الأطفال تمامًا معنى الوطن والتضحية.

وفي هذا السياق، تُنظّم بعض المدارس أيضًا زيارات إلى النصب التذكاري للحرب الكورية، وهو واحد من أهم المعالم التي تُجسّد تاريخ التضحية في البلاد. هناك، يشاهد الطلاب الجداريات، والتماثيل الرمزية، ويلتقون أحيانًا بمحاربين قدامى يروون قصصهم، فتتحول المعلومات المجردة إلى تجربة إنسانية حية. الصور التي التُقطت من هذا المكان توثّق لحظاتٍ مؤثرة: أطفال يقفون بانتباه أمام أسماء الشهداء المنقوشة على الجدران، وجنود يؤدّون التحية في صمت، وأُسر تضع الزهور بحب وامتنان. مشاهد تختصر معاني كثيرة، وتُرسّخ في النفوس دروسًا لا تُنسى.




صور من زيارة الأطفال للنصب التذكاري للحرب الكورية، 5 يونيو 2025 . (الصور من حساب كوريا نت الرسمي على فليكر)


ورغم الطابع الرسمي، يحتفظ هذا اليوم بخصوصيةٍ عاطفية لكل أسرة فقدت فردًا من أفرادها. فالكثيرون يزورون قبور أحبائِهم حاملين الورود، وتُعلّق صور قدامى المحاربين على الجدران، ليبقى الحاضر موصولًا بالماضي.


صور لبعض الأسر خلال زيارة قبور أحبائِهم الذين فقدوهم، 5 يونيو 2015، مقبرة سول الوطنية. (الصور من حساب كوريا نت الرسمي على فليكر)

صور لبعض الأسر خلال زيارة قبور أحبائِهم الذين فقدوهم، 5 يونيو 2015، مقبرة سول الوطنية. (الصور من حساب كوريا نت الرسمي على فليكر) 


كيف شعرت تجاه هذا اليوم؟

رغم أنني لا اعيش في كوريا ولستُ جزءًا من شعبها، إلا أنني وجدت نفسي مشدودة إلى هذه اللحظة المؤثرة. أن تصمت أمةٌ كاملة احترامًا لتضحيات أبنائها هو أمرٌ عظيم. شعرت حينها أن الصمت ليس غيابًا للكلمات، بل حضورًا مكثفًا للمعنى.

إن مشاهد هذا اليوم لا تقتصر على المراسم الرسمية، بل تتجلى أيضًا في تفاصيل صغيرة تعبّر عن احترام الشعب لتاريخه، كأن يضع الأطفال شارات سوداء على أذرعهم، أو تُخصص زوايا في المدارس لعرض صور الشهداء. كلها لقطات تُبرِز كيف يتحول الحزن إلى تقدير، والفقد إلى وعي.

تأثرت كثيرًا بمشهد الناس وهم يقفون في الطرقات أو في أماكن عملهم، دون أن يطلب منهم أحد، فقط بدافع من شعور داخلي عميق بالاحترام. كم تمنيت أن أكون هناك، لا لأشاركهم الوقوف فقط، بل لأتعلّم عن قُرب كيف تُربّى الأجيال على الوفاء، وكيف يُصبح التاريخ حيًّا في وجدان الناس.


خاتمة: أثرٌ لا يُنسى

إن يوم الذكرى في كوريا ليس مجرد مناسبة لتأبين الراحلين، بل هو دعوة حقيقية للتأمل في معنى التضحية والوطن. لقد غيّر هذا اليوم شيئًا في داخلي، وجعلني أُدرك أن بعض اللحظات، رغم صمتها، تكون أكثر بلاغة من آلاف الكلمات. وأن الوفاء، حين يكون صادقًا، يتجاوز الحدود واللغات، ويصل إلى القلوب مهما بعدت المسافات.


صورة لبعض الجنود خلال زيارة للنصب التذكاري للحرب الكورية، 5 يونيو 2025 . (الصورة من حساب كوريا نت الرسمي على فليكر)

صورة لبعض الجنود خلال زيارة للنصب التذكاري للحرب الكورية، 5 يونيو 2025 . (الصورة من حساب كوريا نت الرسمي على فليكر)





تعليقات

المشاركات الشائعة